الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
نقول لهم: أنتم نسبتم لله- والعياذ بالله- الظلم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب من الإنسان أن يؤمن به إلا وقد أودع فيه قوة اختيارية تختار بين البديلات. وأنتم لم تفطنوا إلى حقيقة كتابة كل شيء أزلًا فأخذتم منها الشيء الذي لابد للناس أن تنفذه ولم تلتفتوا إلى أن هناك فرقًا بين أن يكون قد كتب ليلزم، وأن يكون قد كتب لأنه علم.هو سبحانه كتب لماذا؟ لأنه علم أزلًا أن عبده سيختار كذا ويختار كذا. إذن فالكتابة ليست للإلزام ولكن لسبق العلم. والعلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.وحتى نوضح ذلك نقول: إن الصفات نوعان: صفة تكشف الأشياء على ما هي عليه بصرف النظر عن أن تقهر أو لا تقهر، والقدرة صفة إبراز وليست صفة انكشاف، ومثال ذلك عميد الكلية الذي يأتي فيقول لأستاذ مادة من المواد: جاءت لي مكافأة للطالب النابغ في مادة كذا، فاصنع اختبارًا للطلاب حتى نعطي هذه الجائزة لمن يستحقها. فيقول أستاذ المادة: لا ضرورة للاختبار لأنني أعلمهم وأعرف مواقعهم من الجدّ ومواقعهم من الاجتهاد ومواقعهم من فقه العلم، فلان هو الأول وأعطه الجائزة، فلا يقنع عميد الكلية ويضع هو اختبارًا أو يأتي بأساتذة آخرين يضعون الاختبار دون هذا الأستاذ.وبعد ذلك يفوز الطالب الذي حدده الأستاذ مسبقًا بالدرجة الأولى.أساعة أجاب الطالب عن الأسئلة التي وضعت له. أكان مع الطالب الذي فاز بالمركز الأول من يرغمه على أن يكتب المادة العلمية التي جعلته يحصل على الجائزة؟ لا. فلماذا قال الأستاذ عنه ذلك؟ لأنه علم بمن عنده قدرة من العلم. لقد حكم الأستاذ أولًا لأنه يعلم.ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد، فالحق سبحانه وتعالى أعطى للناس الاختيار بين البديلات، لكنه أوضح: أنا أعلم أن عبدي سيختار كذا وكذا. إذن فهذا سبق علم لا قهر قدرة. فالقدرة لها تأثير والعلم لا تأثير له ولا قهر. وقول الله هنا: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ} فقوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} تعني أي ضرر يلحقهم. كلمة عليهم دائمًا تكشف للإنسان ما عليه؛ لذلك لا يقول لهم بل يقول: أي ضرر كان يلحقهم لو أنهم آمنوا بالله؛ ولذلك يقول الحق: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 46].لم يقل سبحانه: الذين يتيقنون. بل إن مجرد الظن بلقاء الله جعلهم يعملون الأعمال الصالحة، فما بالك إذا كان العبد متيقنًا؟ إن المتيقن يقوم بالعمل الصالح من باب أولى. ولذلك فهذه المسألة أخرجت المعرّي عما أتهموه به من أنه ينكر البعث، صحيح أنه في أول حياته قال: فقالوا: إن قوله لا يعاد له سبك معناه أنه ينفي قدرة الحق على أن يبعثنا مرة ثانية، مع أنه من الممكن أن يتأول فيها، أي لا يعاد لنا سبك في حياتنا هذه، ونحن لا نرى من مات يعود مرة ثانية. ونقول كذلك: إن هذه قالها في أول حياته. ولكنه قال في آخر الأمر: فهو يطلب من الطبيب والمنجم أن يكفا عن إفساد العقول بالشك. وهب أنه اعتقد ألا بعث، وواحد آخر اعتقد أن فيه بعثًا، نقول له: إما أن يجيء بعث فيكذب من قال: لا بعث، وإما ألا يجيء بعث، فإذا لم يجيء البعث، ما الذي ضر من آمن بالبعث؟ وإذا جاء البعث فمن الذي خسر؟ سيخسر من أنكره، إذن فالذي ينكر البعث يخسر ولا يكسب، لكن من قال: إن هناك بعثًا لا يخسر، وهكذا.وقول الحق: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} إنه تساؤل عن أي ضرر كان يلحقهم {لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} إن من يعطي الصدقة ويضعها في يد الله يستثمرها عند المعطي، لكن عندما يقوم بذلك رئاء الناس فهو يثمر عند من لا يعطي، وبذلك يكونون قد خسروا أموالهم وخسروا تثمير الأموال في يد الله بالثواب في الآخرة.{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيمًا}. وعلم الله متغلغل وسبحانه يعلم الخفايا. وسبحانه محيط بكلّ شيء علما؛ لذلك يقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ...}. اهـ.
قالوا: ويجوز أن يكون قوله: {وماذا عليهم}، مستقلًا لا تعلق له بما بعده، بل ما بعده مستأنف.أي: وماذا عليهم يوم القيامة من الوبال والنكال باتصافهم بالبخل وتلك الأوصاف المذمومة، ثم استأنف وقال: لو آمنوا، وحذف جواب لو.وقال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا، فهو جواب مقدم انتهى.فإن أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقًا لكلام النحويين، لأن الاستفهام لا يقع جواب لو، ولأن قولهم: أكرمتك لو قام زيد، إن ثبت أنه من كلام العرب حمل على أكرمتك دال على الجواب، لا جواب كما قالوا في قولهم: أنت ظالم إن فعلت.وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما قاله.وماذا: يحتمل أن تكون كلها استفهامًا، والخبر في عليهم.ويحتمل أن يكون ما هو الاستفهام، وذا بمعنى الذي وهو الخبر، وعليهم صلة ذا.وإذا كان لو آمنوا بالله واليوم الآخر من متعلقات قوله: {وماذا عليهم}، كان في ذلك تفجع عليهم واحتياط وشفقة، وقد تعلقت المعتزلة بذلك.قال أبو بكر الرازي: تدل على بطلان مذهب الجهمية أهل الجبر، لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما أجاز أن يقال ذلك فيهم، لأنّ عَذرهم واضح وهو أنّهم غير متمكنين مما دعوا إليه، ولا قادرين، كما لا يقال للأعمى: ماذا عليه لو أبصر، ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحًا.وفي ذلك أوضح دليل على أنّ الله قد قطع عذرهم في فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات، وأنهم متمكنون من فعلها انتهى كلامه.وهو قول المعتزلة والمذاهب في هذا أربعة كما تقرر: الجبرية، والقدرية، والمعتزلة، وأهل السنة.قال ابن عطية: والانفصال عن شبهة المعتزلة أنّ المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به انتهى.ولما وصفهم تعالى بتلك الأوصاف المذمومة كان فيه الترقي من وصف قبيح إلى أقبح منه، فبدأ أولًا بالبخل، ثم بالأمر به، ثم بكتمان فضل الله، ثم بالإنفاق رياء، ثم بالكفر بالله وباليوم الآخر.ولما وبخهم وتلطف في استدعائهم بدأ بالإيمان بالله واليوم الآخر، إذ بذلك تحصل السعادة الأبدية، ثم عطف عليه الإنفاق أي: في سبيل الله، إذ به يحصل نفي تلك الأوصاف القبيحة من البخل، والأمر به وكتمان فضل الله والإنفاق رئاء الناس.{وكان الله بهم عليمًا} خبر يتضمن وعيدًا وتنبيهًا على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم. اهـ.
|